سقوط النخبة- هل انتصر العامة في زمن التواصل الاجتماعي؟
المؤلف: عبده خال08.27.2025

في سالف العصر والأوان، خطت أناملي مقالاً يحمل عنوان "سقوط السقوط"، لكن أغلب الكتابات يطويها النسيان سريعاً، خاصة الكتابة الصحفية التي تتسم بطبيعتها الاستهلاكية؛ فهي تظهر وتختفي تبعاً لما يدور ويتفاعل داخل المجتمعات. وبما أن الواقع دائم التغير والتحول، فإن المقالة الصحفية تستجيب للانجراف مع هذه المتغيرات اليومية المتلاحقة. قلّما نجد مقالاً صحفياً يصمد لسنة أو سنتين، خاصة إذا كان تعليقاً على حدث عابر وزائل.. فلننتقل الآن إلى زاوية أخرى في هذا المقال.
على مر العصور، نظر الفلاسفة إلى العامة على أنهم أصحاب الفكر البسيط والسطحي، وأنهم يشكلون أشبه ما يكون بآلة أو مضخة لنقل الأحاديث التافهة والروايات الملفقة دون أدنى تمحيص أو تدقيق. وغالباً ما يكونون وسيطاً خصباً لنشر الاتهامات والشائعات المغرضة. هذا التصور ترسخ لديهم نتيجة لما كانوا يواجهونه من تنكيل واضطهاد بسبب أفكارهم، حيث يتم استغلال العامة في محاربة أي فكرة فلسفية تتعارض أو تتنافى مع الأفكار السائدة.
في العصور الغابرة، تعرض الفلاسفة وأصحاب الفكر المستنير لحملات شعواء، واتُهموا بالزندقة والابتداع والترويج لرؤى فاسدة. هذه التهم كانت تجد آذاناً صاغية لدى العامة، الذين كانوا يتواصون بنبذ أي فكرة جديدة أو عالم يقدم اختراعاً يحول المجرد إلى محسوس، أو مفكر يقف في وجه الأفكار القديمة. وبالفعل، كانت فئة "السمعية" أو الناقلون للأخبار دون تمييز يبذرون ما يسمعونه في كل مكان، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التحقق من صحة ما يسمعونه أو يقولونه، سواء كان حسناً أو سيئاً.
وانطلاقاً من الاعتقاد بأن أصحاب الرأي السديد هم وحدهم من يضعون قواعد الصواب والخطأ، جرت العادة على اعتبار العامة هم الداء، وأُطلقت عليهم أوصاف قدحية مثل: الغوغاء، والرعاع، وسقط القوم. لكن العامة لم يستسلموا ولم يخضعوا لهذه النظرة الدونية، بل انتفضوا وبادروا بتبادل الاتهامات والشتائم مع المفكرين.
فزعم العامة أن المفكرين ليسوا سوى أناس يعيشون خارج زمانهم، ولا يملكون شيئاً سوى إلقاء الكلمات الفارغة والمعقدة التي لا يفهمها أحد. هنا يسقط الحُكمان معاً، لأن كلاً منهما لجأ إلى التعميم، والتعميم غالباً ما يجانب الصواب والحقيقة.
في زمن لاحق، ظهر مصطلح "النخبة" الذي يشير إلى أصحاب الرأي السديد من الفلاسفة والمفكرين والمثقفين والأدباء. وقد ارتبط ظهور هذا المصطلح بفئة قليلة من الأشخاص الذين يسيطرون على الحياة الاجتماعية ويمتلكون القدرة الفاعلة على التأثير والتغيير أكثر من غيرهم.
لكن سرعان ما تم استلاب هذا المصطلح ("النخبة") من أصحابه، وأُطلق على الكتاب والمفكرين، مع اعتبار بقية الشعب من العامة (تحاشياً لوصفهم بالغوغائيين). كما تم تداول مصطلح النخبة على نطاق واسع، فأصبحنا نسمع عن "النخبة السياسية" و"النخبة الاقتصادية" و"النخبة الاجتماعية"...!
هذه النعرات الثقافية ليست وليدة اللحظة، بل هي تتجدد وتتطور وفقاً للعصر وأحداثه والأفكار التي تنتجها عقول الحكماء والفلاسفة الذين غالباً ما يختفون عن الأنظار، ولكنهم يظلون في صدارة المشهد.
عندما قام غوستاف لوبون، عالم النفس الجماعي الفرنسي (7 مايو 1841 - 13 ديسمبر 1931)، بتأليف كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير"، قام المفكر هاشم صالح بترجمته إلى اللغة العربية.
يعتبر هذا الكتاب مرجعاً أساسياً للباحثين في الحكم على الشعوب أو الجماهير، كتصنيف معترف به خاصة بعد ظهور علم النفس الاجتماعي. ومن البديهي أن لوبون قد حكم على عصره بظروف ذلك الزمن، ولا يمكن اعتبار السيكولوجية النفسية للجماهير نفسية ثابتة، فالمتغيرات هائلة وأدوات العصر طرأ عليها تغيرات جوهرية. فالناس الآن يعيشون في غرفة واحدة بفضل وسائل التواصل الحديثة، فهل هذا يعني توحيد آراء العامة؟ بالطبع لا. إلا أن أهم ما يميز الوقت الراهن في عصر مواقع التواصل الاجتماعي هو أنه أسقط مصطلح النخب، فهل انتصر العامة على تلك العقول التي تعتبر نفسها موجهة للمجتمعات؟
وبالعودة إلى نقطة البداية، فإن المقالة الصحفية لا تصمد طويلاً. وإزاء السؤال الأخير، أجد من الجرأة القول إن العامة لا يستطيعون تسيير مركبة فضائية باستخدام حبل جمل!.
وما زالت في أعماق نفسي كلمات تحتاج إلى مساحة أوسع للتعبير عنها.
على مر العصور، نظر الفلاسفة إلى العامة على أنهم أصحاب الفكر البسيط والسطحي، وأنهم يشكلون أشبه ما يكون بآلة أو مضخة لنقل الأحاديث التافهة والروايات الملفقة دون أدنى تمحيص أو تدقيق. وغالباً ما يكونون وسيطاً خصباً لنشر الاتهامات والشائعات المغرضة. هذا التصور ترسخ لديهم نتيجة لما كانوا يواجهونه من تنكيل واضطهاد بسبب أفكارهم، حيث يتم استغلال العامة في محاربة أي فكرة فلسفية تتعارض أو تتنافى مع الأفكار السائدة.
في العصور الغابرة، تعرض الفلاسفة وأصحاب الفكر المستنير لحملات شعواء، واتُهموا بالزندقة والابتداع والترويج لرؤى فاسدة. هذه التهم كانت تجد آذاناً صاغية لدى العامة، الذين كانوا يتواصون بنبذ أي فكرة جديدة أو عالم يقدم اختراعاً يحول المجرد إلى محسوس، أو مفكر يقف في وجه الأفكار القديمة. وبالفعل، كانت فئة "السمعية" أو الناقلون للأخبار دون تمييز يبذرون ما يسمعونه في كل مكان، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التحقق من صحة ما يسمعونه أو يقولونه، سواء كان حسناً أو سيئاً.
وانطلاقاً من الاعتقاد بأن أصحاب الرأي السديد هم وحدهم من يضعون قواعد الصواب والخطأ، جرت العادة على اعتبار العامة هم الداء، وأُطلقت عليهم أوصاف قدحية مثل: الغوغاء، والرعاع، وسقط القوم. لكن العامة لم يستسلموا ولم يخضعوا لهذه النظرة الدونية، بل انتفضوا وبادروا بتبادل الاتهامات والشتائم مع المفكرين.
فزعم العامة أن المفكرين ليسوا سوى أناس يعيشون خارج زمانهم، ولا يملكون شيئاً سوى إلقاء الكلمات الفارغة والمعقدة التي لا يفهمها أحد. هنا يسقط الحُكمان معاً، لأن كلاً منهما لجأ إلى التعميم، والتعميم غالباً ما يجانب الصواب والحقيقة.
في زمن لاحق، ظهر مصطلح "النخبة" الذي يشير إلى أصحاب الرأي السديد من الفلاسفة والمفكرين والمثقفين والأدباء. وقد ارتبط ظهور هذا المصطلح بفئة قليلة من الأشخاص الذين يسيطرون على الحياة الاجتماعية ويمتلكون القدرة الفاعلة على التأثير والتغيير أكثر من غيرهم.
لكن سرعان ما تم استلاب هذا المصطلح ("النخبة") من أصحابه، وأُطلق على الكتاب والمفكرين، مع اعتبار بقية الشعب من العامة (تحاشياً لوصفهم بالغوغائيين). كما تم تداول مصطلح النخبة على نطاق واسع، فأصبحنا نسمع عن "النخبة السياسية" و"النخبة الاقتصادية" و"النخبة الاجتماعية"...!
هذه النعرات الثقافية ليست وليدة اللحظة، بل هي تتجدد وتتطور وفقاً للعصر وأحداثه والأفكار التي تنتجها عقول الحكماء والفلاسفة الذين غالباً ما يختفون عن الأنظار، ولكنهم يظلون في صدارة المشهد.
عندما قام غوستاف لوبون، عالم النفس الجماعي الفرنسي (7 مايو 1841 - 13 ديسمبر 1931)، بتأليف كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير"، قام المفكر هاشم صالح بترجمته إلى اللغة العربية.
يعتبر هذا الكتاب مرجعاً أساسياً للباحثين في الحكم على الشعوب أو الجماهير، كتصنيف معترف به خاصة بعد ظهور علم النفس الاجتماعي. ومن البديهي أن لوبون قد حكم على عصره بظروف ذلك الزمن، ولا يمكن اعتبار السيكولوجية النفسية للجماهير نفسية ثابتة، فالمتغيرات هائلة وأدوات العصر طرأ عليها تغيرات جوهرية. فالناس الآن يعيشون في غرفة واحدة بفضل وسائل التواصل الحديثة، فهل هذا يعني توحيد آراء العامة؟ بالطبع لا. إلا أن أهم ما يميز الوقت الراهن في عصر مواقع التواصل الاجتماعي هو أنه أسقط مصطلح النخب، فهل انتصر العامة على تلك العقول التي تعتبر نفسها موجهة للمجتمعات؟
وبالعودة إلى نقطة البداية، فإن المقالة الصحفية لا تصمد طويلاً. وإزاء السؤال الأخير، أجد من الجرأة القول إن العامة لا يستطيعون تسيير مركبة فضائية باستخدام حبل جمل!.
وما زالت في أعماق نفسي كلمات تحتاج إلى مساحة أوسع للتعبير عنها.